الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد **
ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين: الأولى قوله تعالى: {يظنون}. الضمير يعود على المنافقين ، والأصل في الظن: أنه الاحتمال الراجح، وقد يطلق علي اليقين، كما في قوله تعالى {الذين يطنون أنهم ملاقو ربهم} [البقرة: 46]، أي: يتيقنون، وضد الراجح المرجوح، ويسمي وهما. قوله: {ظن الجاهلية}. عطف بيان لقوله: {غير الحق}، و {الجاهلية}: الحال الجاهلية: والمعني: يظنون بالله ظن الملة الجاهلية التي لا يعرف الظان فيها قدر الله وعظمته، فهو ظن باطل مبني على الجهل. والظن بالله عز وجل على نوعين: الأول: أن يظن بالله خيرًا. الثاني: أن يظن بالله شرًا والأول له متعلقان: 1. متعلق بالنسبة لما يفعله في هذا الكون، فهذا يجب عليك أن تحسن الظن بالله عز وجل فيما يفعله سبحانه وتعالى في هذا الكون، وأن تعتقد أن ما فعله إنما هو لحكمة بالغة قد تصل العقول إليها وقد لا تصل وبهذا يتبين عظمة الله وحكمته في تقديره، فلا يظن أن الله إذا فعل شيئًا في الكون فعله لإرادة سيئة، حتى الحوادث والنكبات لم يحدثها الله لإرادة السوء المتعلق بفعله، أما التعلق بغيره بأن يحدث ما يريد به أن يسوء هذا الغير، فهذا واقع، كما قال تعالى: {قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوء أو أراد بكم رحمه} [الأحزاب: 17]. 2. متعلق بالنسبة لما يفعله بك، فهذا يجب أن تظن بالله أحسن الظن، لكن بشرط أن يوجد لديك السبب الذي يوجب الظن الحسن، وهو أن تعبد الله على مقتضى شريعته مع الإخلاص، فإذا فعلت ذلك، فعليك أن تظن أن الله يقبل منك ولا تسيء الظن بالله بأن تعتقد أنه لن يقبل منك، وكذلك إذا تاب الإنسان من الذنب، فيحسن الظن بالله أنه يقبل منه، ولا يسيء الظن بالله بأن يعتقد أنه لا يقبل منه. وأما إن كان الإنسان مفرطًا في الواجبات فاعلًا للمحرمات، وظن بالله ظنًا حسنًا، فهذا هو ظن المتهاون المتهالك في الأماني الباطلة، بل هو من سوء الظن بالله، إذ إن حكمة الله تأبي مثل ذلك. النوع الثاني: وهو أن يظن بالله سوءً، مثل أن يظن في فعله سفها أو ظلمًا أو نحو ذلك، فإنه من أعظم المحرمات وأقبح الذنوب، كما ظن هؤلاء المنافقون وغيرهم ممن يظن بالله غير الحق. قوله: الأول: رفع اللوم عن أنفسهم. الثاني: الاعتراض على القدر. وقوله: {لنا} خبر مقدم. وقوله: {من شيء}: مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمة المقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. قوله: {إن الأمر كله الله}. أي: فإذا كان كذلك، فلا وجه لاحتجاجكم على قضاء الله وقدره فالله - عز وجل يفعل ما يشاء من النصر والخذلان. وقوله: {إن الأمر} واحد الأمور لا واحد الأوامر، أي: الشأن كل الشأن الذي يتعلق بأفعال الله وأفعال المخلوقين كله لله سبحانه، فهو الذي يقدر الذل والعز والخير والشر، لكن الشر في مفعولاته لا في فعله. قوله: قوله: قوله: وهذا الاحتجاج لا حقيقة له، لأنه إذا كتب القتل على أحد، لم ينفعه تحصنه في بيته، بل لابد أن يخرج إلى مكان موته، والكتابة قسمان: 1. كتابة شرعيه، وهذا لا يلزم منها وقوع المكتوب، مثل قوله تعالى: 2. كتابة كونية، وهذه يلزم منها وقوع المكتوب كما في هذه الآية، ومثل قوله تعالى: قوله: قوله: وقد حصل الابتلاء والتمحيص في غزوة أحد بدليل أن الصحابة لما ندبهم الرسول ـ صلى ـ 2حين قيل له: قوله: وقوله: * الآية الثانية قوله تعالى: ومنه ما نقله المؤلف عن ابن القيم رحمهما الله: أنهم يظنون أن أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيضمحل، وأنه لا يمكن أن يعود، وما أشبه ذلك. قوله: قوله: فمنهم من قال المراد بغضبه الانتقام. ومنهم من قال: المراد إرادة الانتقام: قالوا: لأن الغضب غليان دم القلب لطب الانتقام، ولهذا قال النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ فيجاب عن ذلك: بأن هذا هو غضب الإنسان، ولا يلزم من التوافق في اللفظ التوافق في المثلية والكيفية، قال تعالى: وقوله: {ولعنهم}. اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله. قوله: قوله: {وساءت مصيرًا}. أي: مرجعًا يصار إليه. و {مصيرًا}: تمييز، والفاعل مستتر، أي: ساءت النار مصيرًا يصيرون إليه. قال ابن القيم في الآية الأولى: " فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته. ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يُتِمَّ أمرَ رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن يظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح وأنما كان هذا ظن السوء، لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق. فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار. وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده. فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء. ولو فتشت من فتشت، لرأيت عنده تعنتًا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك، هل أنت سالم؟ فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجيًا قوله: " قال ابن القيم ". هو محمد ابن قيم الجوزية، أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميه الكبار الملازمين له رحمهما الله، وقد ذكره في " زاد المعاد " عقيب غزوة أحد تحت بحث الحكم والغايات المحمودة التي كانت فيها. قوله: " في الآية الأولى ". يعني قوله ففسر بما يكون طعنًا في الربوبية وطعنًا في الأسماء والصفات، فالطعن في القدر طعن في ربوبيتة الله عز وجل، لأن من تمام ربو بيته عز وجل أن نؤمن بأن كل ما جري في الكون فإنه بقضاء الله وقدره، والطعن في الأسماء والصفات تضمنه الطعن في أفعاله وحكمته، حيث ظننا أن الله تعالى لا ينصر رسوله وسوف يضمحل أمره، لأنه إذا ظن الإنسان هذا الظن بالله، فمعني ذلك أن إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام عبث وسفه، فما الفائدة من أن يُرسَل رسولًا ويؤمر بالقتال وإتلاف الأموال والأنفس، ثم تكون النتيجة أن يضمحل أمره وينسي؟ فهذا بعيد. ولا سيما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي هو خاتم النبيين، فإن الله تعالى قد أذن بأن شريعته سوف تبقي إلى يوم القيامة. قال ابن القيم رحمه الله: " وهذا هو ظن السوء الذي يظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح ". وخلاصة ما ذكر ابن القيم في تفسير ظن السوء ثلاثة أمور: الأول: أن يظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، فهذا هو ظن المشركين والمنافقين في سورة الفتح، قال تعالى: الثاني: أن ينكر أن يكون ما جري بقضاء الله وقدره،، لأنه يتضمن أن يكون في ملكه سبحانه ما لا يريد، مع أن كل ما يكون في ملكه فهو بإرادته. الثالث: أن ينكر أن يكون قدره لحكمه بالغة يستحق عليها الحمد، لأن هذا يتضمن أن تكون تقديراته لعبًا وسفهًا، ونحن نعلم علم اليقين أن الله لا يقدر شيئًا أو يشرعه إلا لحكمة، قد تكون معلومة لنا وقد تقصر عقولنا عن إدراكها، ولهذا يختلف الناس في علل الأحكام الشرعية اختلافًا كبيرًا بحسب ما عندهم من معرفة حكمة الله سبحانه وتعالى. ورأي الجهمية والجبرية أن الله يقدر الأشياء لمجرد المشيئة لا لحكمة، قالو: لأنه لا يسأل عما يفعل، وهذا من أعظم سوء الظن بالله، لأن المخلوق إذا تصرف لغير حكمة سمي سفيهًا، فما بالك بالخالق الحكيم؟ ! قال تعالى: والمعتزلة على العكس من ذلك، يقولون: لا يقدر إلا لحكمة، ويفرضون على الله ما يشاؤون، وقد ذكر صاحب "مختصر التحرير" الفتوحي رحمه الله: أن في المسألة قولين في المذهب. ولكن الصوب بلا ريب أنه لا يفعل شيئًا ولا يقدر على عبده ولا يشرع شيئًا إلا لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد والشكر. قوله: قوله: "وأكثر الناس". أي: من بني آدم لا من المؤمنين يظنون بالله ظن السوء، أي: العيب فيما يختص بهم، كما إذا دعوا الله على الوجه المشروع يظنون أن الله لا يجيبهم، أو إذا تعبدوا الله بمقتضى شريعته يظنون أن الله لا يقبل منهم، وهذا ظن السوء فيما يختص بهم. قوله: "فيما يفعله بغيرهم". كما إذا رأوا أن الكفار انتصروا على المسلمين بمعركة من المعارك ظنوا أن الله يديل هؤلاء الكفار على المسلمين دائمًا، فالواجب على المسلم أن يحسن الظن بالله مع وجود الأسباب التي تقضتي ذلك. قوله: "ولا يسلم من ذلك". أي: من الظن السوء. قوله: ولهذا حجب المحرفون والمؤولون عن معرفة أسماء الله وصفاته، فتجد قلوبهم مظلمة غالبًا، تحاول أن تورد الإشكالات والتشكيك والجدل، أما من أبقي أسماء الله وصفاته على ما دلت عليه وسلك في ذلك مذهب السلف، فإن قلبه لا يَرِدُ عليه مثل هذه الاعتراضات التي ترد على قلوب أولئك المحرفين، لأن المحرفين إنما أتوا من جهة ظنهم بالله ظن السوء، حيث ظنوا أن الكتاب والسنة دلَّ ظاهرهما على التمثيل والتشبيه، فأخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه وينكرون ما أثبت الله لنفسه، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل. أما كون كل معطل ممثلًا، فلأنه إنما عطل لكونه ظن أن دلالة الكتاب والسنة تقتضي التمثيل، فلما ظن هذا الظن السيئ بنصوص الكتاب والسنة أخذ يحرفها ويصرفها عن ظاهرها، فمثل أولًا، وعطل ثانيًا، ثم أنه إذا عطل صفات الله تعالى خوفًا من تشبيهه بالموجود، فقد شبهه بالمعدوم، وأما كون كل ممثل معطلًا، فلأن الممثل عطل الله تعالى من كماله الواجب حيث مثله بالمخلوق الناقص، وعطل كل نص يدل على نفي مماثلة الخالق للمخلوق. وعلي هذا، فالذي عرف أسماء الله وصفاته معرفة على ما جري عليه سلف هذه الأمة وأئمتها، وعرف موجب حكمة الله، أي: مقتضى حكمة الله، لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء. وقوله: " موجب ". موجب، بالفتح: هو المسبب الناتج عن السبب بمعني المقتضي، وبالكسر: السبب الذي يقتضي الشيء بمعني المقتضي، والمراد هنا الأول. فالذي يعرف موجب حكمة الله وما تقتضيه الحكمة، فإنه لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء أبدًا، ولاحظ الحكمة التي حصلت للمسلمين في هزيمتهم في حنين وفي هزيمتهم في أحد، فإن في ذلك حكمًا عظيمة ذكرها الله في سورة آل عمران والتوبة، فهذه الحكم إذا عرفها الإنسان لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء، وأنه أراد أن يخذل رسوله وحزبه، بل كل ما يجريه الله في الكون، كمنع الإنبات والفقر، فهو لحكمة بالغة قد لا نعلمها، ولا يمكن أن يظن أن الله بخل على عباده، لأنه عز وجل أكرم الأكرمين، وعلي هذا فقس. قوله: " اللبيب ". على وزن فعيل، ومعناه: ذو اللب، وهو العقل. قوله: " بهذا ". المشار إليه هو الظن بالله عز وجل، ليعتني بهذا حتى يظن بالله ظن الحق، لا ظن السوء وظن الجاهلية. قوله: "وليتب إلى الله". أي يرجع إليه، لأن التوبة الرجوع من المعصية إلى الطاعة. قوله: " وليستغفره ". أي: يطلب منه المغفرة، واللام في قوله: " فليتب " وقوله: " وليستغفره " للأمر. قوله: " تعنتًا على القدر وملامة له ". أي: إذا قدر الله شيئًا لا يلائمة تجده يقول: ينبغي أن ننتصر، ينبغي أن يأتي المطر، ينبغي أن لا نصاب بالحوائج، وأن يوسع لنا في هذا الرزق وهكذا. قوله: " فمستقل ومستكثر ". " مستقل ": مبتدأ، خبره محذوف. و" مستكثر ": مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: فمن الناس مستقل ومنهم مستكثر": مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: فمن الناس مستقل ومنهم مستكثر، ونظير ذلك قوله تعالى: قوله: " وفتش نفسك: هل أنت سالم ". وهذا ينبغي أن يكون في جميع المسائل مما أوجبه الله، فتش عن نفسك: هل أنت سالم من التقصير فيه؟ ومما حرمه الله عليك: هل أنت سالم من الوقوع فيه؟ قوله: " فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ". " تنج " الأول فعل الشرط مجزوم بحذف الواو، " تنج " الثانية جوابه مجزوم بحذف الواو. وقوله: " من ذي عظيمة ". أي: من ذي بلية عظيمة. قوله: " وإلا، فإني لا إخالك ناجيًا ". التقدير، أي: وإلا تنج من هذه البلية، فإني لا إخالك ناجيًا. ومعني إخالك: أظنك، وهي تنصب مفعولين: الأول هنا الكاف، والثاني ناجيًا. * فيه مسائل: الأولى: تفسير آية آل عمران: الثانية: تفسير آية الفتح. الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر. الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه. فيه مسائل: * الأولى: تفسير آية آل عمران. وهي قوله تعالى: * الثانية: تفسير آية الفتح. وهي قوله تعالى: * الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر. أي: ظن السوء والذي أخبر بذلك ابن القيم رحمة الله، وضابط هذه الأنواع أن يظن بالله ما لا يليق به. * الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه. أي: لا يسلم من ظن السوء بالله إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده وعرف نفسه ففتش عنها، والحقيقة أن الإنسان هو محل النقص والسوء، وأما الرب، فهو محل الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه. * مناسبة الباب للتوحيد: إن ظن السوء ينافي كمال التوحيد، وينافي الإيمان بالأسماء والصفات، لأن الله قال في الأسماء: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف: 180]، فإذا ظن بالله ظن السوء، لم تكن الأسماء حسني، وقال في الصفات:
***
|